الرواية تواجه التاريخ الشفوي

نهاية التاريخ الشفوي

محمد العباس

2017-2-2


تنصيص الواقع- من المشافهة إلى الكتابة

 

بما يشبه الحنين الروسوي للريف والتأفف المجازي من المدينة، يقرر عبده خال أنّ "المدينة تعلمك القذارة" وذلك في روايته "مدن تأكل العشب" وهو هجاء يتكرر بكثافة في الرواية المحلية مع معرفة الروائيين، المتحدرين من أصل قروي في الغالب، إنّ المدينة تغري الكائن وتجرؤه على كتابة الرواية، وهي الكفيلة أيضا، من الوجهة الإبداعية، بإنهاء ما يعرف بالتاريخ الشفوي، أو هذا هو مكمن النظرية التي تضع سحرية خطاب القرية، بعفة تداعياتاها الثقافية والأخلاقية والاجتماعية قبالة خطاب المدينة، الذي يبدو بدوره مكشوفاً ومعقداً في آن كناظم للعلاقات الإنسانية، حيث تنتفي الكينونة ويتصعد الحس الفرداني، فالولادة الجديدة للرواية لا تنفصل بحال عن تلك البنية الثقافية الأشمل، وعما تؤمّنه لها من فضاء ديمقراطي، واختبار حداثي أشبه بالصيرورة الدائمة.

ليس من المصادفة أن تنتهي مجموعة من الروايات بعودة البطل إلى "الرياض" أو مغادرته ( ناصر بطل سقف الكفاية يعود إليها من كندا مقبوضا، والى نفس الوجهة تغادر هند بطلة هند والعسكر) أو بعبارة رثائية تثير الذعر والتخرص مما ستؤول إليه هذه المدينة الساطية مادياً ونفسياً، كما اختتم إبراهيم الخضير روايته "عودة إلى الأيام الأولى" بالقول "الرياض لم تعد إلى ما قبل الثاني من أغطسطس 1990!!! شئ ما تغير" وكأن الحياة والرواية أيضا في مكان آخر، يلهث الرواة بحثاً عنها، فيما يشبه الرحيل إلى إيثاكا، فهكذا يستدعيها الوعي الروائي، بما هي فضاء ضاغط، أو مدينة مكتوبة حتى قبل أن يسردها الرواة، وتعبّر في حقيقة مضامينها كمكان، عن هوية استحواذية جامعة. ولأنها ككل الأماكن ظاهرة مرتبطة بالذات وبالوقائع المعاشة المتعلقة بالإنسان، جعلها بعض الروائيين عنصراً حكائياً، وربما مارسوا شيئا من الكراهية ضدها، لأنها مفروضة بقوة حتى على رواياتهم، أو تموضعوا فيها قسراً ليسردوا قراهم، كما روى أحمد الشويخات "سيهات" في روايته "نبع الرمان" وتغنى أحمد أبو دهمان أيضا بقرية "آل خلف" في روايته "الحزام".

الرياض، قيمة مادية على أرض الواقع، تفرض سطوتها على الفعل الروائي، إذا ما تمّ تحليل هذا الجانب من السرد الأدبي، ومقاربة الشعرية الجديدة للمكان، حيث تتحول إلى مدينة ملعونة. جاذبة ماديا، وطاردة روحيا، يصعب الاقتراب منها –روائيا- دون استدعاء جملة من التداعيات التاريخية والسياسية والاجتماعية والنفسية، ودون تحميلها، كفضاء مديني، وكمختبر شامل للحداثة، جريرة الفتك بعفة القرية وشعرية تداعياتها، فقد موضعها أحمد الدويحي بهجاء جمالي في ثلاثيته "المكتوب مرة أخرى" قبالة قريته "العسلة" أي خارج مفردات أمه الجميلة، كما اختصر ذلك الوسواس الحداثي تركي السدسري في اشارته المبكرة إلى "جدار القرية" الذي كان يتهاوى أمام ضربات المدينة والتحديث، أو كما عبّر فهد العتيق –روائياّ- عن اضطراب تلك الصيرورة بكائنه المؤجل، الذي رآه صعب التشكل على أرضية متحركة، تتعرض على الدوام لمؤثرات واستقطابات على درجة حادة من التباين.

ذلك الصاعق الحداثي هو الذي عجّل بتقويض الحاجز بين المضمار وما تمت معالنته سردياً، للتأكيد على أنّ الرواية بنت المدينة. ولأنها كذلك، تورطت بشكل لا إرادي في حالة من التدافع مع الشعر، إذا عاشت الرواية المحلية على هامشه لزمن، وأدمنت صمتها تحت وطأة الأيدلوجي والشعري والسياسي والاجتماعي، لتصل اليوم إلى خطاب أكثر تعقيداً يتم بموجبه كسر حاجز الشفاهي كما يتداول كحكايا، على حافة الكتابة بما هي وسيلة من وسائل الحداثة لتشكيل الذات وحضورها، فهي الحلقة الأكمل والأهم في متوالية ( الكلام- اللغة- الكتابة) وبما هي المعادل البنائي للهوية، على اعتبار أنّ السرد شكل من أشكالها، بتصور بول ريكور، أو هكذا صارت الرواية تفرض شعرية من نوع آخر، بما تقترحه من شرط خاص يتأسس على مسافة بين التطلعات الشعرية وبين نثرية العالم الخاص.

كل تلك التداعيات الموضوعية والفنية عجلت بالاجهاز على ما تبقى من التاريخ الشفوي، والتقدم داخل مستوجبات اللحظة التدوينية، بوعي مضاعف يتمثل في نص يتجاوز النزوة الذاتية  وإمتاع السامعين بلذة الحكي، إلى استراتيجية متعددة الأبعاد تراهن على شكل جديد من التلقي، برواية تشبه منتجها بالضرورة، ولا تستعير عوالمها وشخوصها من المنافي، أو بالمعنى النقدي، صار "السرد" بما هو فعل واقعي أو خيالي، بتعبير جيرار جنيت، أمراً ملحاً لتجاوز شفاهية الخطاب، كما يتمثل في بساطة المركبات البنيوية للقصة والحكاية، الأمر الذي استدعى تحاوز الوعي السماعي القروي، وتنشيط فعل القراءة النوعي، رهاناً على قارئ يقارب النص كمؤلف مضاد، أي ككائن تداولي، لا يكتفي بملامسة النص أو المنتج الإبداعي بمعزل عن عملية انتاجه، إنما يمارس التفكير المعلن في شروط تولده التاريخية والاجتماعية والنفسية، لتفتيت وهم الملكية الفردية للنص، المتأنية من الإيمان الأحادي باللغة، والتماس بالمعنى الخلاّق للثقافة.

إذاً، المدينة كانت ضرورة فنية وموضوعية، ليس كفضاء مكاني متخيل وحسب، ولكن كحاضن حياتي، تستشعر فيه الذات جملة من المعاني الإنسانية الحية عبر اللغة، لامتصاص مركبات الثقافة القبلية والقروية والفئوية والمذهبية، واختبار كفاءة الذات على حافة المعنى الأحدث للثقافة، بما يعنيه من التعدد والإقرار بالآخر، داخل حاضن مديني أوسع يتمثل في العولمة، التي تهب صوتاً لكل فرد مهما طالت إقامته في الهامش. وبموجب هذا التحول تمّ التخفف من غلواء التهويمات الشعرية، واستثمار فرصة تاريخية ثمينة لصعود "الفردانية" كما أعلنها القصيبي في "شقة الحرية" والتعاطي الأحدث مع متطلبات الكتابة الروائية، رغم العناد الرومانسي الذي أبداه عبدالله ثابت في روايته "الإرهابي 20" لمدينة "أبها" وانكاره المجازي لما طرأ على قريته من تحولات دراماتيكية، بديالكتيك نفي مكتظ بالعبارات الشعرية "لا يليق بأبها إلا أن تكون قرية مهما ملأوها بأعمدة الضوء والبنايات والشوراع الإسفلتية والمتاجر والأسواق. إنها قرية على طريقة المدن، مثل الفتاة الريفية التي ألبسوها ثياب المدينة إلا أنهم لم يستطيعوا تغيير جسدها الريفي".

هكذا تمّ تجاوز اللحظة الشفهية بتحريك مكامن المسكوت عنه، المحكي ضمناً، أو الراكد، بسبب جملة من الاعتبارات الفنية والموضوعية، وعليه صار انطاق ما يعرف بالتاريخ الشفوي أمرا ممكنا، من خلال ذات مهجوسة بالحضور عبر مدونات هي بمثابة الوثائق أو السجلات، كما تمثل في "ميمونة" محمود تراوري مثلا، حيث الانقلاب على "زمن الكليات المغلقة" والانتماء إلى "زمن الخصوصيات المفتوحة". أي الذهاب إلى المجتمعية عبر الفردية، والخروج من خرس مجتمعات ما قبل الرواية الى المابعد الروائي، التي يشبهها بيير كلاستر بالكتلة الصماء، أو هذا ما يقرره بنقدية جارحة حين يقارب الكيانات البشرية التي تعيش عماها الحياتي وليس التعبيري وحسب.

في ظل تلك العتمة الماسخة للفرد تنهض الرواية كممر لتفتيت بنية الصمت، إثباتاً للحضور، أو هكذا تبدو كفرضية أنطولوجية تقوم على الرغبة في الانوجاد المعززة بروح الاستمرارية. وبمقتضى هذا التعقيد الأناسي يمكن التماس بتلك المتوالية من الروايات في مجتمع مصاب بالتشظي، وانفقاد السحنة الاجتماعية الموحدة، أو خضوعه لهوية مركزية مفروضة من نسق أعلى، وانكشافه الصريح أمام بؤس الواقع ومزاعم الشعارات، ووهن الأيدلوجية، وتهاوي المركب القبلي والطائفي، وانفضاح ميكروفيزيائية السلطة بكل أشكالها (الدينية والسياسية والاجتماعية) حيث أصبح حتى الانشقاق على مركزوية النسق، ومهادنة الخراب، وانمساخ السحنة الاجتماعية مادة ضرورية وصالحة للكتابة، بل وقودها للتصالح باليومي مع الجغرافيا والتاريخ وإعلان الرفض للهوية الضيقة أحادية البعد، بما يعني استدراج الروائي للتماس بالمفهوم الأحدث للثقافة الذي يتجاوز سكونية مركبات الموروث الثقافي الفلكلورية، إلى الإقرار بالتكامل التعددي عبر الفردي.

ولأنّ الرواية خطاب تفاعلي يحدث تماسه مع كافة أشكال الوعي (الإجتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي والتاريخي والأسطوري والنسوي وحتى الشعبي) يفترض وجود ذلك الوعي في الفعل الروائي المحلي ولو بمنسوب بسيط، فالرواية تعبير عن مجتمع يتغير، ولا تلبث أن تصبح تعبيراً عن مجتمع يعي أنه يتغير، بتحليل إيان وات، وهذا هو مكمن الوعي الذي يمكن امتصاصه بالفعل من عالم بعض الروايات الجديدة، المحقونة بالمضامين حدّ تحويلها الى خطابات أيدلوجية لا تراعي متطلبات البنى الفنية، بل تقتات على صيرورة أوسع وأشمل من مقاصد وقدرات الفرد، كما يلاحظ في روايات تركي الحمد مثلاً، التي تمّ تعاطيها كمنشورات سياسية وعاطفية إلى حد ما، على اعتبار أنّ الرواية، بتصور ميشال بوتور، ليست مغامرة الفرد بل المجموع، أي المجتمع الذي "لا يتأف من أنس فقط، بل من كل ما هو مادي وثقافي".

هذا ما تتطلبه الرواية في علاقتها بالواقع، عندما تحاول تنصيصه، أي الكتابة بروح اللحظة التي تماثل النص الإبداعي بمقومات الخطاب الاجتماعي والسياسي، فيما يعني الإقرار بالتحول وبالتاريخ الإنساني، كترجمة لانزياحه المستمر، حسب فيصل الدراج، وكتعبير عن زمن راكد يعوزه التغير والتبدل، على اعتبار أنّ الرواية، تنتمي أيضا إلى زمن الحداثة الاجتماعية، التي تمارس ضرباً من نقل العلاقات الاجتماعية من الواحد الى المتعدد، ومن المتجانس الى المختلف، ومن الثابت المقدس الى متحول لا قداسة فيه، فهذه الانعطافات اللافتة في المشهد المحلي إنما جاءت اثر انهيار الوهم الأيدلوجي، وما تبعه من ترد اقتصادي، وانكشافه الكائن أمام قدره كفرد وليس كمنظومة فكرية وسحنة اجتماعية وحسب.

إذاً، الرواية تحدث في لحظة التحول، وتؤثر فيها بعمق عندما تعبر بوعي عن ذلك الانتقال التاريخي، فهي أكثر نظم التمثيل اللغوي كفاءة، بالنظر إلى ما تتسم به من حيوية وتنوع يسمح بتعدد وجوه التعبير عن الحقيقة، ولذلك تأهلت كخيار أدبي ينهض بالتحديث على مستوى المرجعيات الجمالية والمفاهيمية، فهي خطاب استحواذي على درجة من الاشتباك بالمنظومات الفكرية والعقائدية والاخلاقية، ويتداخل فيها آخر طرازات السرد والتفكير الإنساني، بل هي الفضاء التواصلي الأصدق لتمثل شكل الحداثة الاجتماعية، وعليه جاء النص الروائي المحلي ليعمل ضمن وظيفة تمثيلية كاشفة لطبيعة الوقائع، من خلال رواية جديدة هي بمثابة نص أدبي متعدد الأبعاد، لا يتخفف بحال من المعنى الوظيفي للثقفاة، وكأنها أرادت أن تشكّل ضميراً متنوع الدلالات بتحريك جملة من المرجعيات التاريخية والإجتماعية، والتماس بنظريات ما بعد الحداثة التي تضع الاعتراف بالتباين والاختلاف والتنوع والتعدد شرطاً لتحديد معنى الثقافة.

هكذا انفجرت بنية الصمت، وصار من الممكن الاصغاء الضمني، أو التنبؤ بقصص لم ترو بعد، والتعويل على إنهاء منهجية التملص والمراوغة التي كانت تحد من سقف التعبير، أو ما ينبغي أن يقال، أو "التأريخ" بما هو غائية تقوم على المحو والكتابة، وبما هو مرجعية للاجتماعي والسياسي بمعنى أدق، فالمواظبة الكتابية اللافتة- روائياً- أنتجت في العقد الأخير ما يفوق رصيد المنجز الروائي منذ بدايات التأسيس، وما يمكن اعتباره "رواية محلية" ولو بالمعنى الكمي، فذلك التنامي المطرد في أطوارها، الذي أوصلها الى ما يشبه الظاهرة متعددة الدلالات، هو ما يقلب رتابة السؤال الجوهري عن معنى إعادة توضع طابور طويل من المبدعين في خانة الرواية.

وبالتأكيد تجسد تلك المراودات السردية وثيقة حية لشخصية المكان والإنسان، فهذا التواتر في الاصدارات دلالة صريحة على كتابة من صميم التجربة والخبرة، أو هكذا يمكن التعاطي مع اشارات هذا الفعل الإبداعي، حيث أطلت زمرة من الروائيين الجدد، ولكن "الرواية الجديدة" لم تنوجد، إذا جاز استعارة وصف روبير بانجي للمشهد الروائي الفرنسي إبان حمى البحث عن رواية جديدة، فقد برزت مجموعة من الأسماء الجديدة التي تقتحم عالم الرواية للمرة الأولى، وتقاربه بمحاولات تجريبية جادة، أو تثويرية لمضامينه بمعنى أدق، بحثاً عن رواية مختلفة بكل ما تعنيه الكلمة من انشقاق، للخروج بالسرد أيضا من صرامة بناءاته التقليدية، الى أفق حداثي متعدد الأبعاد شكلا ومضمونا.

ولكن يبدو أن أكثر تلك الروايات مجد قصص قصيرة منفوخة، عند الاتكاء على التعبير الانتقاصي، لأمبروز بيرس، لأن دلالات المنتج –كماً وكيفاً- لا تتناغم بنيويا بالمعاني المتعددة للكتابة كمفهوم ووظيفة وفن، مهما قيل عن محاولات الحد من تطرفاتها التعبيرية والبوحية، فالرواية المحلية في علاقاتها بالواقع نبدو ذات طابع امتصاصي، تلهث وراء الحدث، وتستعرض اللحظة، التي هي أكثرمراوغة وغماوضاً مما يعتقده ويسجله الروائيون، بشكل توثيقي، ولا تقوم بمهمة تحليل تداعياتها، حيث يتبين أن الواقع بعموميته هو أكبر مرجعية، وأهم مضخة معتمدة، كما تنفرض عبر الحدث والوقائع وليس بموجب مناخ فكري، وهو ما يفسر عدم وجود مرجعية سوسيولوجية حيوية متبلورة، كما هو حال "المخيم" بالنسبة للرواية الفلسطينية، وكذلك "الحرب الأهلية" بالنسبة للرواية اللبنانية، لحظة ولادتها الجديدة، وأيضا "الحارة" بالنسبة للرواية المصرية في طور تشكلها، أو الرواية العراقية الحديثة في لحظة الشتات وهكذا.

وإذ تؤسس هذه الأصوات لرواية بمواصفات محسوبة تراعي المنسوب المتواضع، أو الحذر للحداثة الاجتماعية، تتقاطع بشكل أو بآخر مع فكرة لوكاتش عن الرواية كصوت للبرجوازية والفردية، أو هكذا يتحقق ضمنها ذلك المحنى من نظرية الرواية، بما هي الشكل التعبيري الأكثر انفتاحاً واستيعاباً للخطابات الانسانية، أي ملحمة العصر الحديث، كما تصورها باختين كحوارية قوامها التعددية اللغوية، حيث تتكثف غالبا على حافة الهوية كمعادل للكتابة، وهو ما يتأكد بشكل جلي عند تأمل الذوات المنتجة للروايات المحلية، وتفحص وعيها أو صلتها بالكتابة، أي اختبار ما تنتجه من مستويات متباينة في المواقف والتجارب، على اعتبار أنّ الرواية كتابة تضطلع بمهمة إعادة اكتشاف الذات، من خلال مفهمة التاريخ، والإحساس الشخصي به كذاكرة، أو توسيع معنى الموروث بوعي تداعياته الزمانية والمكانية.

إذاً، الرواية المحلية تشبه بالضرورة منتجيها، ولذلك تبدو معظم ضرباتها الأولى سير ذاتية مموهة، وبالضرورة هي رواية مقنعة، بدليل عدم وجود مسافة بين المنتج الروائي وما يقابله من كتابات سيرية أو حتى فكرية، وهو ما يتقاطع مع استنتاج كليف جميس، ومع ما يعلنه حول جدلية التقنع بنبرة نقدية جازمة، إزاء تلك الأوتوبيوغرافيا الروائية، فإحساس الروائي الضمني أو الصريح بتميزه عن الآخرين –اختلافا أفقيا أو ترتيباً سلمياً- يكون في الغالب هو الدافع لسرد جوانب منتقاة من حياته، والترويج لسنته في الحياة، وكذلك اعتقاده بأهمية وجاذبية الأحداث التي عاشها خلال تلك الفترة وما تضمنته من زخم أيدلوجي وسياسي، يكون دافعاً أيضا لا يقل أهمية عن الأول في ولادة الرواية.

وقد بدا الأمر جلياً في جملة من الروايات التي لم تكن سوى لقطات بيوغرافية مستعادة من الذاكرة، إذ لا ترسم ذلك الخط العمودي داخل التاريخ، وبالتالي فهي لا تؤسس حدث الكتابة الروائية بمعنى متجاوز، كما يفترض في الرواية أن تكون، أي كجهاز "هدمي بنائي في آن معاً" بوصف جاك دريدا، وبما هي معنية بالحداثة المتأتية من البحث عن أدب مستحيل, وهكذا كان سرد الحكاية الذاتية، واعلانها كمدونة شخصية معادلة للتاريخ المكتوب، ممراً لتحقيق "الفردانية" كما أسس لذلك المحنى المتجاوز حتى للمنزع الذاتي غازي القصيبي بروايته "شقة الحرية".

هكذا أعيد اختراع "الأنا" ولو بنبرة خطابية فارطة، وهو أمر متوقع فللخطاب من الوجهة الفنية والموضوعية، مكانة واسعة في السرد الأتوبيوغراف، عند تحليل ميثاق السيرة. وبتلك الشخصنة التي طغت على المنجز الروائي انتصرت "أنا" الراوي، بما تحمله من نثار السيرة الذاتية والاعترافات المموهة، عبر إزاحات المتخيل الروائي، حيث أعاد الراوي  اكتشاف ذاته، أو بمعنى أدق، أعاد مركزتها إزاء "الآخر" بكل أطيافه وامتداداته، في منعطف العلاقات الاجتماعية، بحيث بدت أغلب الوقائع والحوادث لفرط واقعيتها مسرودة بشكلها النيئ الذي يحيل الى متخيل روائي محدود في تمويهاته.

ذلك المتخيل الروائي المراوغ لتسريب الوقائع المسماة من النص، وتأكيد "الأنا" هو ما جعل من رواية/ سيرة علي الدميني أيضا (الغيمة الرصاصية) تنفصم على حافة مربكة ما بين اللعبة الأدبية –اللغوية تحديداً- وبين الشهادة الشخصية الحية، المنذورة لتسمية الأشياء، وإن بشئ من الوجل الذاتي، الأمر الذي أسس لعازل نفسي عند إحداث تلك "الأنا" تماسها بنسق الحياة الأشمل، ربما لأنّ الذاكرة كمكان افتراضي، لم تقارب عمودياً، أو لأن زمن الكتابة، غير زمن الحكاية، كما تحلل يمنى العيد ذلك الفاصل التعبيري في مقارباتها للسرد، فهنالك مسافة بين الحكاية واستعادتها، أو بين العيش في واقع ورؤية هذا الواقع، قد يؤدي الى فصل التجربة عن الحقيقة.

ويبدو أن ترسبات التاريخ الشفوي ورهاباته المزمنة، لم تغادر الذات الراوية تماما، فقد عمد الروائيون الى توظيف المتخيل الروائي لممارسة بعض التشريح التجريدي البارد للوقائع، وهو ما أدخل أغلب الروايات فيما يعتبره فيليب لوغان خطيئة سيرية، أي إعادة البناء المفصلة والوهمية للمشاهد والحوارات، والحرص على ذكر أسماء الأعلام، وإقحام الأجزاء غير المفهومة من اليوميات الخاصة، الأمر الذي أفقد المتخيل الروائي سمة التجانس ليس مع ميثاق السيرة وحسب، بل مع البنية الروائية، نتيجة المغالاة في التمويه، والرغبة الواعية واللاواعية ربما للتأريخ.

لم تعد الكتابة ضريبة للكتاب تجاه المجتمع، كما رسم معالمها رولان بارت، بل أصبحت فعلا نصيًّا يعبر به الكائن عن تحرره الثقافي، فدخول الاجتماعي في النص، برأيه لم يعد يقاس لا بشعبية استقباله ولا بصدقه في عكس الجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي يختزنه أو الذي يمنحه لبعض السوسيولوجيين الذي ينتظرون استقباله بشوق، ولكنه أصبح يقاس بدرجة العنف التي تمكنه من تجاوز قواعد يصنعها مجتمع أو ايدلوجيا أو فلسفة بغرض تحقيق الانسجام في حركة تاريخية جميلة وواضحة. إنّ هذا التجاوز له اسم هو الكتابة. أجل "الكتابة" بما هي المنعطف أو الأداة التي ينتهي بها الوعي الفردي والجمعي سطوة التاريخ الشفوي.

 

نهاية التاريخ الشفوي، محمد العباس، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى 2008، من مقدمة الكتاب.

 



 
عدد الزوار: 4834


التعليقات

 
الاسم:
البريد الإلكتروني:
التعليق:
 

الأكثر قراءة

نبذة من مذكرات ايران ترابي

تجهيز مستشفى سوسنگرد

وصلنا إلى سوسنگرد قُبَيل الظهر. كان اليوم الثالث عشر من تشرين الأول عام 1980. لم يكن أمرها مختلفًا عن أهواز بل كانت أمرّ حالًا منها. كان قد غمرها التراب والدمار. وقد خلت من أهلها إلا ما ندر. كما أعلنت منظمّة الهلال الأحمر في أهواز، كانت لا تزال المدينة في متناول قصف العدو، ولم يأمن جانب منها من وطء القذائف والقنابل. لقد أوصلنا أنفسنا إلى مستشفى المدينة بسرعة. ما زال بابها ولوحتها سالمَين. تتقدّم المستشفى ساحة كبيرة قد حُرِث جانب منها. كأنها قد هُيّئت قبل الحرب لزرع الفسائل والزهور.

التاريخ الشفهي للدفاع المقدس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي

الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان)
لقد صدر عن حرس الثورة الإسلامية ومركز الوثائق والدراسات للدفاع المقدّس في عام 1401 ه.ش. كتابُ التاريخ الشفهي للدفاع المقدّس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي، تحت عنوان الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان) وبجهود يحيى نيازي. تصميم الغلاف يحاكي مجموعة الروايات التاريخية الشفهية للدفاع المقدس الصادرة عن هذا المركز. إذ قد اختار هذا المركز تصميمًا موحّدًا لأغلفة جميع كتب التاريخ الشفهي للدفاع المقدس مع تغيير في اللون، ليعين القارئ على أن يجدها ويختارها.
أربعون ذكرى من ساعة أسر المجاهدين الإيرانيّين

صيفُ عامِ 1990

صدر كتاب صيف عام 1990، بقلم مرتضى سرهنگي من دار سورة للنشر في سنة 1401ش. وبـ 1250 نسخة وبسعر 94 ألف تومان في 324 صفحة. لون غلاف الكتاب يحاكي لون لباس المجاهدين، ولون عنوان الكتاب يوحي إلى صفار الصيف. لُصِقت إلى جانب عنوان الكتاب صورة قديمة مطوية من جانب ومخروقة من جانب آخر وهي صورة مقاتلَين يسيران في طريق، أحدهما مسلّح يمشي خلف الآخر، والآخر يمشي أمامه رافعًا يديه مستسلمًا.
الدكتور أبو الفضل حسن آبادي

أطروحات وبرامج التاريخ الشفوي في "آستان القدس الرضوي"

أشار رئيس مركز الوثائق والمطبوعات لآستان قدس الرضوي، إلى أطروحات "تاريخ الوقف والنذور الشفهي" و"تاريخ القراءات القديمة في الحرم الشفوية" وعلى أنها أحدث المشاريع للمركز وقال: "إنّ تسجيل تاريخ الموقوفات لآستان قدس الرضوي الشفوي في عدّة مدن، هو مشروع طويل المدة. وتأسس مؤخرا قسم الدراسات للقراءت في مركز الوثائق وهو ضمن مجموعة مركز الدراسات". وفي حواره مع موقوع التاريخ الشفوي الإيراني قال الدكتور أبو الفضل حسن آبادي، شارحا برامج المركز:
مكتبة الذكريات

"أدعو لي كي لا أنقص"،"في فخّ الكوملة" و"تكريت بنكهة خمسة خمسة"

سوف تتعرفون في هذا النص، على ثلاثة كتب صدرت عن محافظتين في إيران: " أدعو لي كي لا أنقص: الشهيد عباس نجفي برواية زوجته وآخرين" من المحافظة المركزية وأيضاً كتابي "في فخّ الكوملة: ذكريات محمد أمين غفار بور الشفهية" و"تكريت بنكهة خمسة خمسة" وهي ذكريات أمين علي بور الشفهية" من محافظة كيلان. إثنان من المعلّمين ألّفـت السيدة مريم طالبي كتاب "أدعو لي كي لا أنقص". يحتوي الكتاب علي 272 صفحة وثلاثة عشر فصل، حيث تم إنتاجه في مكتب الثقافة