الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب/1

فادي شاهين*

2017-2-6


مقدمة

لا يخفى على أحد شفوية الثقافة العربية القديمة، ولا يوجد ناطق للعربية لم يسمع بعبارة "حدثنا فلان عن فلان" ليس من الناحية الدينية، مثل الحديث والسيرة فحسب، بل في الإرث الثقافي متمثلاً بأعمال الكبار أمثال الجاحظ والأصفهاني وحتى الكتب العلمية لسيبويه والفارابي وآخرين، وصولاً إلى أعمال أدبية معاصرة مثل بعض الروايات العربية التي استوحت من ظاهرة "حدّثنل" بعض هياكلها ومرجعياتها التاريخية الغائرة في نفسية متلق يوصم أحيانا بأنه يعيش في تاريخه.

صحيح أنّ للعرب خصوصية عالية مع الثقافة الشفوية، لا بسبب الآثار الأليمة لما خلفه النقل من صراع على السلطة فحسب، بل بسبب العناية العالية بما كان للتو شفويا أيًّا تكن صدقية هذا الشفوي، إذ لم يكن من بدأ التدوين هاوياً للكتابة، بل كان في أغلب الأحيان عالماً مُلماً وعارفاً بعمله، فها هو ابن سلام الجُحمي (231ه/847 ه) من بدايات عصر الكتابة عند العرب يمارس النقد لمن دونوا، ويوجه سهامه إلى كاتب يُعتبر جليلا في عصرنا وهو صاحب السيرة النبوية، يقول ابن سلام: "وكان ممن أفسد الشعر وهجّنه وحمل كل غثاء منه، محمد بن يسار بن إسحاق بن يسار"1 ومن المعلوم بحسب المنقول إلينا أنّ ابن إسحاق الذي توفي في العام 151ه/ 768 م كان أول من كتب السيرة ولم يكن للعرب بعد قرن ونصف قرن من الهجرة كتبٌ تذكر، لكن عصر التدوين كان قد انطلق. إذاَ، كيف ينتقل شعبٌ من الشفوية إلى الكتابة، لا بل يمارس النقد على ما كُتب؟

سنطرح في هذه العجالة طروحات تتعلق بالعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية وبشكل خاص الكتابة التاريخية العربية.

أولاً: بدء الكتابة عند العرب والمسلمين

تقول الدراسات التقليدية إنه في الجزيرة العربية، في تلك المنطقة من العالم التي يسودها جو صحراوي قاسٍ أحيانا، عاشت قبائل هائمة على وجهها وبعيدة عن طمع الجيران ونتائج حضارة الاجتماع، لكنها كانت ترى ما يحصل حولها وأحيانا تصيبها شذراته نذرا. وبدأت هذه القبائل تتأثر بمحيطها أكثر عندما أجبرت حروب الكبار في فارس وبلاد الرافدين والأناضول والشام طرق التجارة على سلوك المعبر الصحراوي الموحش من اليمن إلى الشام، وازدادت بذلك عوامل التواصل والاتصال لساكني الحواضر على طول هذه الطريق مع محيطهم ومعامليهم، وأصبحت البداوة تميل أكثر إلى الاستقرار بفعل تغير عوامل الرزق، وعوامل أتت لاحقاً مثل التوسع في الأراضي المجاورة، حيث أصبحوا السادة الجدد. وكان مما نتج من ذلك تنوّع القص والإخبار، ولا سيّما ما يخص الأنساب والأيام، حيث كانت أيام العرب تروى مهما نختلف في نوعية هذه الرواية، إذ كانت قابلة لأن تكون رواية تاريخية أو غير تاريخية، لكن الجو المسرحي المتمثل في راوٍ مخبر لقصة حدثت في وقت لم تساعدنا الوسائل الفيزيائية في التقاط اتدادات الضوء عنها كان موجوداً.

إذاً، هذا الجو الذي يقدم عنصر الإخبار والتاريخ كان موجوداً عند العرب، لكن عملية النقل من الشفوي إلى المكتوب بدت للعرب جديدة، ولعل بعض البدايات كانت في القصص الموجودة في القرآن، حيث قُدّر للعرب أول مرة أن يقرأوا قصصا عهدوا سماعها وكانت متداولة آنذاك.

لكن هل كانت الكتابة معروفة قبل ذلك؟

يقول غريغو شولر: "إنّ القرآن هو الكتاب الأول للإسلام وفي الوقت نفسه للأدب العربي. وهذا لا يعني أن استخدام الكتابة كان غير معروف قبل العصر الإسلامي ويعود استخدامها في العقود والمعاهدات والرسائل ... إلخ، عند العرب القدماء إلى عصر ما قبل الإسلام أو ما يُسمى عصر الجاهلية. ومن دون أدنى شك، فإن المعاهدات المكتوبة والرسائل ووثائق أخرى كانت موجودة عند بداية الإسلام. وتجدر الإشارة هنا أنّ القرآن قد أمر بكتابة الديون من طرف كاتب كما ورد في سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) 2. بما أن استعمال الكتابة كان لهذا الغرض، يمكن لنا الجزم بأن هذه الوثائق المكتوبة كانت موجودة منذ جيل أو جيلين قبل ظهور الإسلام، على الأقل في المراكز الحضرية مثل مكة والمدينة." 3

كما أنّ دستور المدينة المعروف كان يُسمى ببساطة، في حياة الرسول (ص)، ب كتاب يعني "الوثيقة المكتوبة"، وأشار ابن إسحاق في السيرة النبوية إلى أن الكتاب هو الميثاق الذي أقماه الله بين مهاجري مكة وأنصار المدينة، وإليكم الجملة الأولى من الدستور: "هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس ... إلخ" 4

يؤكّد التراث العربي أيضا وجود عقود كتابية في عهد الجاهلية، وإنه لمن المبالغ فيه أن نجزم بأن الروايات كلها التي تنصّ على ذلك صحيحة، لكنها تعتبر مصادر قيمة تعطينا فكرة عن عادات العرب وتقاليدهم عند إبرام العقود. وكتب محمد بن حبيب (المتوفى في العام 245 ه/ 860 م) في كتابه المنمق معلومات عن حلف وقع بين قبيلتي خزاعة وعبد المطلب، جد الرسول (ص)، ويقول: "فدخلوا دار الندوة، وكتبوا بينهم كتابا {...} وعلقوا الكتاب في الكعبة". 5

تنقل لنا الكتب المصنفة مصادر أيضا أنه بعد انتشار الإسلام واعتقاد القرشيين بأنه أصبح يشكل خطراً عليهم، اتفق أهل قريش على عدم الزواج من بني هاشم وبني عبد المطلب، وكتبوا في ذلك عهداً، كما يقول ابن هشام في السيرة: "اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم فلما اجتمعوا لذلك متبوه في صحيفة {...} ثم علّقوا الصحيفة في جوف الكعبة".

نفهم أيضا من خلال هذه النصوص أنه من أجل إعطاء قيمة مهمة لهذه العقود، وعلى الأقل تلك المبرمة في مكة، كانت تعلق داخل الكعبة. والجدير بالذكر أن الوثائق المهمة جدا هي وحدها التي تعلق أو تودع في الكعبة. وعن معرفة العرب الكتابة أو اطلاعهم عليها نسمع كثيراً عن المعلقات التي كُتبت بماء الذهب وعُلقت على جدران الكعبة، وثمة من يقول إنّ رواية التعليق هذه غير صحيحة لأنها لم ترد إلا عند ابن عبد ربّه ( ت 328 ه/ 940 م)، أي في القرن العاشر وبعد زمن طويل على بدء تدوين الأخبار وبدء علم التصنيف  والمصنفات عند العرب والمسلمين، وبغض النظر عن صحة هذه الرواية أم لا، فإنّ حادثة التعليق لنصّ مكتوب في نعبد أو مكان مقدس حادثة وردت تاريخيا في أكثر من مصدر، لا بل التعليق على جدران الكعبة نفسها ورد إلينا من مصادر متعددة، كما رأينا سابقا. إذاً، الكتابة كانت معروفة لكن يُشك الى حد كبير في أن تكون واسعة الانتشار أو في أن تكون قد تعدّت النخب الحضرية والتجارية.

ثانياً: بدء التدوين التاريخي باللغة العربية والعلاقة بين الكتابي والشفوي

" إنّ الكتابة التاريخية كانت في البدايات جزءاً من أدب السيرة والمغازي" 7، حيث بدأ بها بعض أبناء الصحابة مثل أبان بن عفان (توفي نحو عام 100 ه) وعروة بن الزبير (ت94ه) الذي استشهد به لاحقاً بعض المؤرخين مثل ابن إسحاق والواقدي والطبري. ويقال إن محمد بن شهاب الزهري هو أول من وضع قواعد علم الرواية الذي يعتمد أساساً على الإسناد. إذ كان الإسناد هو الصفة الرئيسة للإخباريين الأوائل الذين اعتمدوا اعتماداً كبيراً على الرواية الشفوية في معرفة الأخبار، ولعل أبو مخنف (ت 74ه) يعد من أوائل من يذكر الرواية الشفوية مثل حدّثني رجل من آل ... وكذلك الهيثم بن عدي.

ثمة من يقول " إنّ الرواية الشفوية في القرن الأول الهجري جعلت من حفظ الكتب المدونة عملاً سحطحياً زائداً وواجباً غير مرغوب فبه، والإشارة إليه عملاً مشبوهاً، ونجد مؤرخاً في القرن الخامس الهجري مثل الخطيب البغدادي يدعو الى الاعتماد على الرواية الشفوية، وبقدر ما على الروايات المدونة، قال لا تأخذوا العلم عن الصحفيين، وحجته في ذلك أنّ الكتاب عرضة للغيير والتبديل والنسخ والإزالة" 8

نرى على سبيل المثال وبحسب التواريخ السابقة أن ابن إسحاق الذي توفي بعد 150 عاماً على الهجرة، يؤرخ لمرحلة سابقة عليه بزمن طويل، ومما لا شك فيه أنه اعتمد الى حد بعيد على ما كان يسمعه، فضلاً عن أنه بدأ كتابة السيرة بحوادث بدأت قبل الإسلام بوقت طويل.

يدفعنا هذا كله الى الكلام على القضية الأكثر حساسية في ما يخص العلاقة بين الشفوي والكتابي ألا وهي تدوين القرآن والحديث.

ثالثاً: القرآن والحديث

بعد أن ألقينا نظرة على البدايات يجب علينا أن نقول إن ما لا ريب فيه أن واقعة الكتابة أصبحت أكثر رواجاً مع مجئ الإسلام، خلال كتابة العهود أم العناية بكتابة القرآن نفسه، وكتابة الموروث أو المنقول عن الرسول (ص)، ولو اطلعنا على مجريات عملية جمع القرآن واتخاذه الشكل الذي هو عليه الآن، فسنلاحظ أن القرآن استغرق أعواماً كثيرة قبل أن يتخذ شكل الثبات، أي الرسم العثماني كما هو شائع، لأن الرسول (ص) كان قد أملى في مرحلة سابقة السور، وكان عدد من صحابته قد امتلكوا نماذج بعد وقت قليل من وفاته. لكن بالاعتماد على نسخ محددة جرى اللجوء الى ملاحظات مبنية على دعائم شتى، وكذلك الى النقل الشفوي. واتخذ القرآن- كما يقول الموروث أو المنقول الينا- شكله النهائي بين عشرين وخمس وعشرين عاماً بعد وفاة الرسول (ص)، بعد خصومة أثيرت في شأنه داخل الجماعة الإسلامية.

أما في ما يخص النصوص الأخرى المنقولة إلينا فيجب أن تنتابنا الريبة في ما يخص عدد من المسائل التي أخذت زمناً طويلاً قبل أن تدون، ولا سيما في مناخ عام اتسم بالصراع على السلطة والبحث عن مرتكز شرعي لها. على سبيل المثال يجب أن نكون حذرين في ما يخص قسماً كبيراً مما هو منقول من كلام الرسول (ص) وحياته وحتى تنقيح النص القرآني، وعموماً يجب توخي الحذر في ما يخص المنقول إلينا من كل حدث وقع في القرن السابع ومعظم حوادث القرن الثامن- فالكتابة لم تكن من الحالات معاصرة للحوادث المروية –لكن بشكل حصري هي عبارة عن موروث منقول بطريقة خاصة من خلال مجالس حدثت خلال حلقات علمية لعلماء مسلمين. إذ إن مراجعاتهم النهائية لم توضع قيد التطبيق إلا في أثناء القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، أي بين فترة تكوّن الكتابات وثباتها النهائي بالكتابة، لذلك غالباً ما يوجد فاصل زمني من مئة إلى مئتي عام وربما أكثر.

أما في ما يخص التنقيح النهائي للقرآن الذي جرى في عهد الخليفة عثمان، فإن المصدر الأقدم- على حدّ علمنا –هو كتاب الردة والفتوح لسيف بن عمر (ت 184 ه) 9. وهناك مصدر آخر مُستشهد به غالباً في الأدبيات التي تعالج هذه المرحلة المهمة من تاريخ الإسلام وهو كتاب متأخر أكثر بدوره إنه صحيح البخاري الذي يقدم أحاديثه بالرجوع الى شهود، بحسب العملية المعتادة للنقل والرواية، وهي الإشارة إلى الإسناد . لكن ليس بحوزتنا نسخ مخطوطة عن الأصل لكتاب سيف التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن الميلادي، هناك نسخة لاحقة فحسب وُضعت بعد ثلاث أجيال من نسخة المؤلف، وهي بالتالي ليست سابقة لصحيح البخاري.

إنّ العلاقة بين الكتابي والشفوي في ما يخص الحديث أكثر صعوبة في التقويم أيضا. وعلى الرغم من أنه يبدو أن أصحاب الرسول (ص) في بداية القرن السابع الذين يعرفون القراءة والكتابة اعتادوا التدوين بالكتابة بعضاً من كلامه من دون أن يراودهم أي شك، حيث تناقش القائمون على التراث خلال القرن الثامن الميلادي وحتى بعد ذلك في شأن قضية معرفة ما إذا كان مسموحاً أم لا كتابة أثرٍ من هذا النوع، فعدد منهم كان على رأي يقول بالمنع، لأنّ القرآن كان عليه أن يبقى الكتاب الوحيد للإسلام. وهذا كله يفترض أنه عُهد إلى الكتابة كمية كبيرة من المعطيات، وكان لهذه المحاولة فعلياً أتباع نشطون، وكان شعارهم كما يقول الخطيب البغدادي في باب من رُوي عنه الصحابة أنه كتب العلم أو أمر بكتابته: "قيّدوا العلم بالكتاب" 10. فضلاً عن ذلك، يشير أدب السيرة مرة بعد مرة إلى "كتب" كانت مع القائمين على الوروث. إضافة إلى ذلك، يُزعم أن عالماً من الطبقة الأولى هو الزهري قُدّم في عدد من الروايات على أنه غريم للكتابة، كان قد باشر في تدوين الحديث على نطاق واسع في مصنف، وبحسب مصادر أخرى أملى كمية مهمة من الموروث. بيد أنه بعد وفاته عُثر على مصنف واحد أو اثنين مما تركه.

بحسب المعلومات التي يزوّدنا بها أدب السيرة نحو منتصف القرن الثامن، كانت قد ظهرت- في مختلف ميادين العلوم وبالضبط العلوم العربية الإسلامية- مؤلفات تنتمي الى طبقة "تجميع التراث والسنة الخاضع لتصنيف منهجي مؤسس على المحتوى" أو المصنفات: توضح المصادر أنّ بعض المؤلفين "لم يكن لديهم كتاب"، لكن استحضروا كل شئ من الذاكرة. في القرن التاسع الميلادي كذلك حينما بدأ الإنتاج الواسع للكتب الأدبية، كان هناك علماء معروفون بأنهم أملوا تعليمهم من الذاكرة ولم يستعملوا الكتاب قط. لكن من ناحية أخرى يقال لنا إن بعضاً من هؤلاء العلماء كان لديهم في بيتهم مجموعة كبيرة من "الكتب"، ويستوقفنا النظر الى أن مُصنّفاً في القرن التاسع الميلادي هو ابن أبي شيبة (ت 235) سيصرح في بداية بعض أبواب مؤلفه الضخم: "هذا... ما أعلمه عن ظهر قلب".

لو نلتفت إلى الشعر والطريقة التي نُقل بها، فإن الوضع شبه إشكالي، ومن المؤكد أن الشعر العربي القديم، من ناحية النظم والإلقاء والنقل، كان شفوياً. لذلك أثير في شأنه عدد من الدراسات المعروفة، لعل أبرزها في اللغة العربية دراسة طه حسين.

من هذه الشفوية جاءت المجادلة –المحزنة- لباحثين أمريكيين في نهاية القرن الماضي الذين طبقوا على قصائد الشعر العربي القديم نظرية الشعر الشفوي، لميلمان باري وألبرت لورد. من الملاحظ أن الملاحم المحفوظة كتابياً التي نعتقد أنها كانت في البداية شعبية وشفوية، تستعمل أشكالا متواترة. هذه النظرية تستنتج أن هذه الأشكال كانت قد ارتجلت خلال الإلقاء 12. كما أنّ الشعراء المحدثين في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، عهدوا للأجيال اللاحقة جمع قصائدهم وتنقيحها، لكن نستطيع أن نتلمس بعض الإهاصات عن أنه كان بحوزتهم ملاحظات مكتوبة، والمتنبي مثلا لم يهتم بنشر نص ديوانه. من ناحية أخرى، ثمة استحضارات دقيقة لمصنفات شعرية كتبت وظهرت مبكراً، على أبعد تقدير في منتصف الفترة الأموية، ولا سيما في قصائد موثوقة ومحققة، على سبيل المثال نقيضة الفرزدق. على أي حال، فإن الأعمال الأدبية من هذا النوع كانت دائماً موجهة لأن تكون ملقاة شفويا.

 قادت هذه الصورة الغامضة والمتناقضة النقد الغربي إلى تذوّق العلاقة بين الشفوي والمكتوب بطريقة لا تسمح بالقبول إلا بجزء بسيط، هذا إن قبلناه. وبدأت الفائدة من هذه القضية بالظهور في الغرب بداية في القرن التاسع. ومن العجيب أنّ أول عالم عكف على هذه المسألة بطريقة جدية هو ألوا سبرنغر الذي أعطى منذ البداية أجوبة أكثر إقناعاً. "وإننا ممتنين له لتقديمه التفريق العميق الذي سقط مع ذلك في غياهب النسيان عندما أثير هذا الجدل خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إلى درجة أننا عدنا الى اكتشافه. وبحسب ما كتب سبرنغر في دراسته الضخمة التي خصصها للرسول (ص)، فعلينا أن نفرق بين الملاحظات المخصصة لدعم الذاكرة وكراسات الدرس والكتب المنشورة". هكذا، فإن مقالته عن الحديث تتميز بأحكام مقنعة في شأن هذه المسألة، على سبيل المثال عندما يلاحظ أن أقدم الملاحظات المكتوبة، ومنها ما يخص ميدان البحث، كانت موجهة إلى "دعم الذاكرة" من دون أن يرتبط هذا كله ب "كتب على وجه التحديد". 13

الحقيقة أنّ بحث شولر في هذا الخصوص على درجة عالية من الأهمية، إذ يعمد الى تتبع المقالات المهمة كلها التي تتعلق بالعلاقة بين الشفوي والكتابي في ما يخص القرآن والحديث، وهو الذي أعجب بمقالة إنياز غولدزيهر التي أعطت أول لمحة تاريخية عن تطور الحديث، والتي لا تزال تماماً تنتزع الإعجاب من حيث جوهرها الى يومنا هذا، إذ لم يجهل غولدزيهر قط مرحلتين من هذا التطور، المرحلة الأولى: ما كتب على نطاق واسع بتحريض من البلاط (التدوين) اعتبارا من حوالي العام 700 و720م، والمرحلة الثانية: تنظيم المواد في أبواب نسقية (التصنيف) اعتبارا من حوالي العام 640 م.

إذا العلاقة بين الشفوي والكتابي في ما يخص التاريخ العربي الإسلامي هي على درجة عالية من الحساسية، ويجب أن نفرق بحذر شديد بين الكتاب بمفهومه ك "كتاب" والملاحظات الدرسية أو الملاحظات التي وضعت لتساعد الذاكرة في مرحلة غاية في الخصوصية بسبب زخم المعلومات المقدمة في سياق صراعي سياسي واجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى الإهمال  المتعمد للتواريخ، خصوصا في الكتب الحديثة التي تشكل قسما هائلاً من المنشور المتداول في العالم العربي الآن، والتي يصنف أغلبها في خانة الغث.

تطرح العلاقة بين الشفوي والكتابي على الدوال مسألة صدقية الشفوي وصحته، لكن نادرا ما يسلط الضوء على الكيفية التي يقال بها هذا الشفوي، خصوصاً أن وضع اللغة العربية وضع خاص متميز بالازدواجية، فيما يسمعه الراوي ربما يكون مختلفاً عما يقوله في المستوى والطبقة. وأكثر من ذلك، ربما يذهب المدون أو الكاتب بالقصة الى مستوى آخر أبعد من ذلك.

 

 

 

 

  1. طبقات فحول الشعراء ج 1 ص 7-8.
  2. القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 282.
  3. غريغور شولر، الكتابة والنقل في صدر الإسلام، ترجمة فادي شاهين (دمشق 2011) ص 15.
  4. أبو محمد عبدالملك بن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي (بيروت: دار المعرفة، ج 1، ص 501.
  5. البغدادي، كتاب المنمق في أخبار قريش، حيدر آباد، دائرة المعارف الإسلامية، 1964)، ص88.
  6. ابن هشام/ ص350.
  7. وجيه كوثراني، الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل: دراسات في البحث والبحث التاريخي (بيروت: دار الطليعة، 2000)، ص 55.
  8. محمد عبد القادر خريسات، "الرواية الشفهية في الكتابة التاريخية"، العين، مركز زايد للتراث والتاريخ، 2000، ص41.
  9. كتاب الردة والفتوح، وكتاب الجمل ومسيرة عائشة وعلي، دار أمية 1997، ص 51 وما بعدها.
  10. أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تقييد العلم، (دمشق، وزارة الثقافة، 1975) ص 68 وما يليها.
  11. شولر ص5.
  12. شولر ص6.
  13. شولر ص 10.

* فادي شاهين ، باحث في جامعة السوربون - باريس

- عن كتاب "التاريخ الشفوي" المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى، 2015.

 



 
عدد الزوار: 5968


التعليقات

 
الاسم:
البريد الإلكتروني:
التعليق:
 
نبذة من مذكرات ايران ترابي

تجهيز مستشفى سوسنگرد

وصلنا إلى سوسنگرد قُبَيل الظهر. كان اليوم الثالث عشر من تشرين الأول عام 1980. لم يكن أمرها مختلفًا عن أهواز بل كانت أمرّ حالًا منها. كان قد غمرها التراب والدمار. وقد خلت من أهلها إلا ما ندر. كما أعلنت منظمّة الهلال الأحمر في أهواز، كانت لا تزال المدينة في متناول قصف العدو، ولم يأمن جانب منها من وطء القذائف والقنابل. لقد أوصلنا أنفسنا إلى مستشفى المدينة بسرعة. ما زال بابها ولوحتها سالمَين. تتقدّم المستشفى ساحة كبيرة قد حُرِث جانب منها. كأنها قد هُيّئت قبل الحرب لزرع الفسائل والزهور.

التاريخ الشفهي للدفاع المقدس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي

الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان)
لقد صدر عن حرس الثورة الإسلامية ومركز الوثائق والدراسات للدفاع المقدّس في عام 1401 ه.ش. كتابُ التاريخ الشفهي للدفاع المقدّس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي، تحت عنوان الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان) وبجهود يحيى نيازي. تصميم الغلاف يحاكي مجموعة الروايات التاريخية الشفهية للدفاع المقدس الصادرة عن هذا المركز. إذ قد اختار هذا المركز تصميمًا موحّدًا لأغلفة جميع كتب التاريخ الشفهي للدفاع المقدس مع تغيير في اللون، ليعين القارئ على أن يجدها ويختارها.
أربعون ذكرى من ساعة أسر المجاهدين الإيرانيّين

صيفُ عامِ 1990

صدر كتاب صيف عام 1990، بقلم مرتضى سرهنگي من دار سورة للنشر في سنة 1401ش. وبـ 1250 نسخة وبسعر 94 ألف تومان في 324 صفحة. لون غلاف الكتاب يحاكي لون لباس المجاهدين، ولون عنوان الكتاب يوحي إلى صفار الصيف. لُصِقت إلى جانب عنوان الكتاب صورة قديمة مطوية من جانب ومخروقة من جانب آخر وهي صورة مقاتلَين يسيران في طريق، أحدهما مسلّح يمشي خلف الآخر، والآخر يمشي أمامه رافعًا يديه مستسلمًا.
الدكتور أبو الفضل حسن آبادي

أطروحات وبرامج التاريخ الشفوي في "آستان القدس الرضوي"

أشار رئيس مركز الوثائق والمطبوعات لآستان قدس الرضوي، إلى أطروحات "تاريخ الوقف والنذور الشفهي" و"تاريخ القراءات القديمة في الحرم الشفوية" وعلى أنها أحدث المشاريع للمركز وقال: "إنّ تسجيل تاريخ الموقوفات لآستان قدس الرضوي الشفوي في عدّة مدن، هو مشروع طويل المدة. وتأسس مؤخرا قسم الدراسات للقراءت في مركز الوثائق وهو ضمن مجموعة مركز الدراسات". وفي حواره مع موقوع التاريخ الشفوي الإيراني قال الدكتور أبو الفضل حسن آبادي، شارحا برامج المركز:
مكتبة الذكريات

"أدعو لي كي لا أنقص"،"في فخّ الكوملة" و"تكريت بنكهة خمسة خمسة"

سوف تتعرفون في هذا النص، على ثلاثة كتب صدرت عن محافظتين في إيران: " أدعو لي كي لا أنقص: الشهيد عباس نجفي برواية زوجته وآخرين" من المحافظة المركزية وأيضاً كتابي "في فخّ الكوملة: ذكريات محمد أمين غفار بور الشفهية" و"تكريت بنكهة خمسة خمسة" وهي ذكريات أمين علي بور الشفهية" من محافظة كيلان. إثنان من المعلّمين ألّفـت السيدة مريم طالبي كتاب "أدعو لي كي لا أنقص". يحتوي الكتاب علي 272 صفحة وثلاثة عشر فصل، حيث تم إنتاجه في مكتب الثقافة