يحتاج التاريخ الشفوي إلى مساواة مع الوثائق

علي رضا كمري
ترجمة: حسين حيدري

2020-3-20


قرأنا في القسم الأول كلمة علي رضا كمري " التدقيق في الوثيقة والتاريخ الشفوي". ونقرأ هنا القسم الثاني من كلمته.

8/ ولكن "الذكرى" كيف تأخذ مكانها بين المعدات والمدلولات التاريخية، لأنّ الذكرى من وجهة نظر البحث التاريخي لا تعتبر وثيقة وهي ضمن دائرة المتردد في صحته. وهذا ما أكدّ عليه المرحوم جهانكير قائم مقامي في كتابه "مقدمة لمعرفة الوثائق التاريخية" ووضع الذكرى ضمن المصادر النقلية والذهنية. وأكدّ المرحوم الدكتور زرين كوب في مقدمة تاريخ إيران بعد الإسلام، بصورة أخرى، على هذا الموضوع. وهذا ما فعله آخرون.

حتى في التاريخ الشفوي ليسوا قلة من يرى أنّ التاريخ الشفوي يكمل البحث التاريخي. وعلى هذا المعنى جعلوا من التاريخ الشفوي شواهد شفهية توصل الهدف. وهذه جملة الدكتور نورائي: "ما التاريخ الشفوي إلا مانح قسم مما نحتاجه من الماضي"، وفي كتاب "جهات كتابة تاريخ الثورة الإسلامية" يشير إلى أنّ "استعادة واعاة ذهن صاحب الذكرى في مواجهة الموضوع/ الحدث أو الواقعة، تكوين الرواية المختارة منه، وحسب اقتضاء الزمن وأرضية قول الذكرى"، وعلى هذا حتى هنا حين تُقال الذكرى بصورة خالصة وصادقة من صاحبها لها دلالة في الوهلة الأولى على أرضية وزمن واقتضاءات. وتتبدل ذهنية الذكرى في مواجهة الموضوع والاقتضائية إلى إطار نظام فكري/ خطابي، وكل رواية مليئة بالعلامات. وهذا التركيب والتلفيق للذهنية واللغة ضمن الخطاب بالطبع له دور في تكوين المعنى. ولكن في النهاية، أي في المركز الثالث للذكرى إشارات ودلالات فيها إشارات تتعلق بالرواية أو الحدث.

وعلى هذا الترتيب والمبنى يمكننا عن طريق الحصول على الذكريات وتحليلها بمثابة المعطيات، يمكننا قراءة ذهنية النشطاء (الشهود والمطلعين والفاعلين) كظواهر تاريخية، وليس من الواجب معرفة هذه النتاجات منذ الوهلة الأولى كأحداث ذهنية لعوية، كأنها ذكرى الواقعة (ويجب ملاحظة الفرق بين الواقع والواقعة) التي حدثت للفرد وصدرت عنه. فهي تتأثر بالفرد الراوي لها، "التاريخ الثقافي" المبتني على معرفة القيم وعمل النشطاء في الوقائع عن طريق استحصال نفس النتاجات المدونة. وعلى هذا تعرفنا الذكريات على عالم الإيمان والعمل، وهنا يحصل اضاءة على عينية الأحداث. هذه إحدى دلائل الربط، وفي نفس الوقت الاختلاف، بين الذكرى والتاريخ.

ولكن، يعمل على الذكرى عن طريق مؤسسات ومجموعات وتصدر عنها، تنمحي القوانين الثلاث المذكورة سابقا. وفي هذه العملية التي غلبت الآن على كتابة المذكرات نتعامل مع اغنائها وتصحيحها لاظهار الوجه الأدبي لها؛ ونعرف أنّ النصّ الأدبي من حيث القيمة فيه إحالة وهذا أمر مشترك تاريخي. ويأخذ هذا الوضع الذكرى إلى نوع أدبي وشبه أدبي ويضعها في الحدّ الفاصل بين الشعر والقصة. ونقد الوضع الموجود مبتني على أفكار المعرفة التاريخية وبالطبع النقد والمسائلة. ولا تعتبر هذه النصوص الغنية بالأدب وثيقة أو شهادة، بل قرائن وأدلة يرجع لها المؤرخ، وهكذا تأخذ مكانها.

9/ وعلى هذا المنوال حيث يرى المؤرخون الكلاسيكيون بأنّ الوثائق هي الأساس في البحوث التاريخية، لا يعتنون بالنتاجات الذهنية والنقلية ويعتبرون الذكرى ليست ضمن الوثائق. ويمكن رغم ذلك التدقيق في اتقان الذكرى أمام الوثيقة، وحين يُجاب على هذا السؤال هل يمكن اعتبار المكذرات بمنزالة الوثيقة؟

ألف: النظام الفكري/ ثقافتنا، حسب الأسطورة/ القصة- أو ما عرف في التاريخية بروايات ما قبل عصر الحداثة- يعتمد عليها كثيرا. في هذا التلقي من التاريخ نجد جذور History  مع  story. وطرح هذا الموضوع مجددا في بحوث متعلقة بالسردية، باء: لقد اعتنت العلوم المعرفية بهذا الموضوع إذ يمكن تغيير الذاكرة في زمن قصير- أقصر من ساعة- وباتت قضية سياسة الذاكرة والخطاب موضوع نقاش، جيم: اللغة الفارسية، هي لغة روائية وأبية، وهذا السؤال مازال موضوع بحث واختلاف وكمثال تاريخ البيهقي، خاصة قصة حسنك وزير التاريخ أو الأدب، وقد سمعتها قبل سنوات في جلسة من أساتذة مثل مشهد ونقلها من المرحوم عبد الهادي الحائري بأنّ تاريخ الأدب أقرب للأب من التاريخ.  أرجو الانتباه حجم الاختلاف في مجال كتابة التاريخ الاسلامي في نفس الفترة بين المرحوم رهنما (في تاريخ الرسول)، المرحوم آيتي (في تاريخ الاسلام)، والدكتور زرين كوب (في شهادة الاسلام- الاسلام الآن) والمرحوم الدكتور شهيدي (في تاريخ تحليل الاسلام) وفي مكان آخر المرحوم الكتور زياب خوئي مشهود. وفي نفس المجال لا يمكنك التغاضي عن الفاصلة بين المرحوم ذيبح الله منصوري وخسرو معتضد مع المرحوم عبد الهادي الحائري، دال: انتبهوا إذا لم نود أ ولا نريد قراءة واقع تاريخي فكيف يمكن للفكر والأدب أن يفتح لنا طريقا. جاء وضعنا في نهاية العصر الساساني على نحو ما في مقدمة الطبيب  برزويه في كليلة ودمنة، لنقارنها لما تطرق له الفردوسي. في ذات الحروب بين إيران والروس، أنشد فتح علي خان شاهنامة تحتاج إلى تأمل. جاءت عمليات والفجر المقدماتية وما قبل عمليات رمضان، يقولون إنّ سبب عدم انتصارنا في عمليات والفجر المقدماتية هو غرورنا، الحاصل من انتصاراتنا في عمليات سابقة. في نفس الأحداث الأخيرة تجدون علامات تعنى بعالم أكبر من الواقع تظهر لنا في اللغة الادبية، هاء: أوضحت مرات عديدة مداخلة الذهن في تشكيل الذكرى وهي عبور الأحداث من الذهن واللغة إلى الروايات وعن طريقها تصنع الروايات الاحداث، وأشير هنا إلى نقطة، فمثلما يرمم الجسد نفسه إثر اصابة، الذهن أيضا يرمم الذكرى. ولم يحظَ تدمير الذكرى بالعناية اللازمة. لقد واجهت الكثير ممن تضررت ذاكرته. سمعت منهم ذكريات ليست لهم، ولا يعني هذا أنهم تعمدوا الكذب، بل هم متوهمون. هذه العارضة شبيهة بحكايت ملا نصر الدين حين أشاع بين الناس بتقديم طعام وحين وجد الناس القدر بيده ذهبوا حيث أشار ثم تبعهم هو! واو: وفي النهاية أستخدم تكنيك ديب فيك، وهي ادخال التكنولوجيا للتأكيد من الحقيقة والكذب.  مما يأخذنا إلى جملة إدورد سعيد في كتاب "تاريخ- تروما- ذكرى) حيث قال: "فن الذكرى (انتبهوا إلى أنه يصف الذكرى كفن) وقبل أن تكون كائن كانت تنتظر كخنثى حتى يمتلكها شخص ويحفظها في ذاكرته لتصبح ملعبة بي المؤرخين، ويستثمرها المواطنون والمؤسساتويسئون استخدامها".

10/ بالنظر إلى موضوع الشبهات، والآن يجب الاجابة على هذا السؤال كيف يمكن استخدام الذكرة كعنوان/ وثيقة مكمل ومؤيد ومفسر للوثائق في القراءات التاريخية  لانتاج النص التاريخي. ويتحقق هذا الأمر حين يتحقق العلامات الذاكراتية.وترتفع ماهية الذكرى من الفردي إلى "شهادة شاهد". وتستخدم كشاهد عيان. وتستخدم كرواية مركزية  بينما الوثيقة والاسناد بمنزلة مكمل ومؤيد ومفسر للنص المرجوع إليه. ولذلك الحوار في التاريخ الشفوي ليس مجرد أسئلة وأجوبة عابرة، فالهدف استحصال المعلومة ولا محالة استنطاق. ومع الأسف مفردة استنطاق في العرف السياسي القضائي تدل على العنف واستخراج عبر جدل. ويستوجب ذلك الفهم الصحيح لماهية التاريخ وأسلوب الحوار. العملية شبيهة بفعل القاضي مع المتهم. لنتذكر هنا حادثة نجفي (محافظ طهران سابقا- والوزير الأسبق للتربية والتعليم) وقتل زوجته ومحاولة القاضي معرفة ما حدث.

أصل عدم المساس في الدراسات التاريخية هو احراز وثاقة وكفاية الوثيقة وشهادة الشاهد. ولا يعني هذا أنّ المحاورين متهمين وعليهم الاعتراف أمام القاضي. وانهي حديثي ما ضرورة احراز صدق وسندية الذكريات، الذكريات المتعلقة بالثورة وخاصة بالحرب/ الدفاع المقدس، لقد حصل على الموضوية بالتدريج وحصل على الأهمية وعدم الاهتمام به ما الذي سيتركه من تبعات؛ والسلام عليكم ورحمة الله. 1

 

  1. نصّ محاضرة علي رضا كمري في جلسة مركز وثائق العتبة الرضوية في مدينة مشهد الرضى.

 

النصّ الفارسي



 
عدد الزوار: 2269


التعليقات

 
الاسم:
البريد الإلكتروني:
التعليق:
 

الأكثر قراءة

نبذة من مذكرات ايران ترابي

تجهيز مستشفى سوسنگرد

وصلنا إلى سوسنگرد قُبَيل الظهر. كان اليوم الثالث عشر من تشرين الأول عام 1980. لم يكن أمرها مختلفًا عن أهواز بل كانت أمرّ حالًا منها. كان قد غمرها التراب والدمار. وقد خلت من أهلها إلا ما ندر. كما أعلنت منظمّة الهلال الأحمر في أهواز، كانت لا تزال المدينة في متناول قصف العدو، ولم يأمن جانب منها من وطء القذائف والقنابل. لقد أوصلنا أنفسنا إلى مستشفى المدينة بسرعة. ما زال بابها ولوحتها سالمَين. تتقدّم المستشفى ساحة كبيرة قد حُرِث جانب منها. كأنها قد هُيّئت قبل الحرب لزرع الفسائل والزهور.

التاريخ الشفهي للدفاع المقدس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي

الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان)
لقد صدر عن حرس الثورة الإسلامية ومركز الوثائق والدراسات للدفاع المقدّس في عام 1401 ه.ش. كتابُ التاريخ الشفهي للدفاع المقدّس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي، تحت عنوان الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان) وبجهود يحيى نيازي. تصميم الغلاف يحاكي مجموعة الروايات التاريخية الشفهية للدفاع المقدس الصادرة عن هذا المركز. إذ قد اختار هذا المركز تصميمًا موحّدًا لأغلفة جميع كتب التاريخ الشفهي للدفاع المقدس مع تغيير في اللون، ليعين القارئ على أن يجدها ويختارها.
أربعون ذكرى من ساعة أسر المجاهدين الإيرانيّين

صيفُ عامِ 1990

صدر كتاب صيف عام 1990، بقلم مرتضى سرهنگي من دار سورة للنشر في سنة 1401ش. وبـ 1250 نسخة وبسعر 94 ألف تومان في 324 صفحة. لون غلاف الكتاب يحاكي لون لباس المجاهدين، ولون عنوان الكتاب يوحي إلى صفار الصيف. لُصِقت إلى جانب عنوان الكتاب صورة قديمة مطوية من جانب ومخروقة من جانب آخر وهي صورة مقاتلَين يسيران في طريق، أحدهما مسلّح يمشي خلف الآخر، والآخر يمشي أمامه رافعًا يديه مستسلمًا.
الدكتور أبو الفضل حسن آبادي

أطروحات وبرامج التاريخ الشفوي في "آستان القدس الرضوي"

أشار رئيس مركز الوثائق والمطبوعات لآستان قدس الرضوي، إلى أطروحات "تاريخ الوقف والنذور الشفهي" و"تاريخ القراءات القديمة في الحرم الشفوية" وعلى أنها أحدث المشاريع للمركز وقال: "إنّ تسجيل تاريخ الموقوفات لآستان قدس الرضوي الشفوي في عدّة مدن، هو مشروع طويل المدة. وتأسس مؤخرا قسم الدراسات للقراءت في مركز الوثائق وهو ضمن مجموعة مركز الدراسات". وفي حواره مع موقوع التاريخ الشفوي الإيراني قال الدكتور أبو الفضل حسن آبادي، شارحا برامج المركز:
مكتبة الذكريات

"أدعو لي كي لا أنقص"،"في فخّ الكوملة" و"تكريت بنكهة خمسة خمسة"

سوف تتعرفون في هذا النص، على ثلاثة كتب صدرت عن محافظتين في إيران: " أدعو لي كي لا أنقص: الشهيد عباس نجفي برواية زوجته وآخرين" من المحافظة المركزية وأيضاً كتابي "في فخّ الكوملة: ذكريات محمد أمين غفار بور الشفهية" و"تكريت بنكهة خمسة خمسة" وهي ذكريات أمين علي بور الشفهية" من محافظة كيلان. إثنان من المعلّمين ألّفـت السيدة مريم طالبي كتاب "أدعو لي كي لا أنقص". يحتوي الكتاب علي 272 صفحة وثلاثة عشر فصل، حيث تم إنتاجه في مكتب الثقافة